مندوبية التخطيط وجدل تسييس المعلومة

مندوبية التخطيط

جميل أن يكون لدينا مركز أو هيئة مستقلة عن عمل الحكومة، تضطلع بإصدار أرقام وبيانات عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بالبلاد وآفاق الأداء المستقبلية، بعيدا عن قبضة السياسة والسياسيين.
بل إن ذلك من شروط دمقرطة المعلومة الإحصائية، وشفافية البيانات، وضمان التخطيط السليم، وتفعيل الرقابة على عمل الحكومة بلغة الأرقام والمؤشرات، إذ لا تخلو دولة متقدمة من مثل هذه الهيئات الإحصائية.
لكن عندما تتحول هيئة مثل المندوبية السامية للتخطيط بالمغرب، والتي يصرف عليها من أموال الدولة ويعتبر مندوبها الحليمي بمثابة وزير، إلى أداة مسيسة، وعندما تتحول إلى أداة تشكيك في أداء الحكومة، بل وزرع للخوف وعدم اليقين في مستقبل المغرب، مع ما لذلك من تأثيرات على تدفقات رؤوس الأموال وزعزعة التصنيف الائتماني للبلاد، وقتها تصبح هذه الهيئة أداةً لعرقلة جهود الإصلاح، وليس أداة مُعِينة على تقدير الأوضاع الحالية والمستقبلية بالدقة المطلوبة، لينبني عليها القرار السليم.
هذا ليس تشكيكا في المهندسين الإحصائيين والتقنيين، فهم من خيرة خبرات البلد، وليس تشكيكا في الأدوات والآليات العلمية التي يشتغلون بها والمعترف بها دوليا، بل هو خشية من أن تمارس عليهم ضغوط لنشر وإخراج بيانات غير صحيحة أو تحوير نتائج أبحاثهم وأعمالهم.. خشية من المخرجات وليس من المقدمات والنتائج.
مناسبة الحديث ما قالته المندوبية السامية للتخطيط من أن الاقتصاد المغربي يتوقع له أن ينمو ب2.4 في المائة العام الحالي، نظير توقعات الحكومة بنمو أعلى يصل إلى 4 بالمائة، وهو ما دفع وزارة المالية إلى الرد بالنفي وعدم القبول بأرقام المندوبية، بل إن محمد الوفا، وزير الشؤون العامة والحكامة، رأى في ذلك نوعا من تخويف المستثمرين الأجانب.
وهي ردود -وإن كنت غير راض عن طريقة تصريفها- لم نعهدها من قبل، ولم تحصل حتى في عهد فتح الله ولعلو، وزير المالية في حكومة اليوسفي، عندما كان لحليمي، أيضا، يناور في سياق من تصفية الحسابات مع رفقاء البيت الاتحادي، واليوم ربما هو يصفي حسابات مع عبد الإله بنكيران.
لن نخوض في التوقعات التي صدرت عن المندوبية السامية، والتي جاءت غير دقيقة في العديد من المناسبات، وهذا أمر طبيعي مادامت توقعات. لكن، لنحصر الكلام في توقعات نمو الاقتصاد المغربي لعام 2014، فالمندوبية تتوقع 2.4 في المائة، وهو رقم بعيد جدا عما تحقق في عام 2013، حيث بلغت نسبة النمو 4.5 في المائة، وهو أيضا رقم بعيد جدا عن تقديرات الحكومة، بل وبعيد جدا عن تقديرات أكبر مؤسستين ماليتين في العالم، ذلك أن صندوق النقد الدولي توقع 4 في المائة، بينما توقع البنك الدولي 3,6 في المائة. وهاتان المؤسستان تلتزم الحكومة بتزويدهما بالأرقام الدقيقة من أجل إجراء المقارنات الدولية، من جهة، وتقييم حالة الاقتصاد لفائدة المستثمرين الأجانب والمؤسسات المالية المقرضة، من جهة أخرى، علاوة على أنهما تقومان بزيارات منتظمة للمغرب وغيره من البلدان لإجراء المشاورات وتقديم المشورات، وهو وضع يصعب معه تزييف وتضخيم الأرقام تجنبا للمساءلة المالية الدولية.
ولو أن أرقام المندوبية جاءت أقل من أرقام الحكومة بقليل لتم تقبلها، إذ ليس مطلوبا حصول نوع من التطابق، بيد أن ما طلعت به المندوبية جاء أقل بنقطة واحدة ونصف النقطة، وهو فرق كبير جدا يصعب القبول به.
في المحصلة، نريد معلومة إحصائية بريئة من قبضة السياسة والتسييس، بعيدة عن تصفيات الحسابات والبهرجة من هذا الطرف أو ذاك، وأقصد المندوبية السامية بالتحديد أو وزارة المالية، لأن الأساس هو استكمال مسار الإصلاح وفق قرارات صحيحة وتخطيط محكم مبني على البيانات الدقيقة والشفافة. أما المهندسون والتقنيون العاملون سواء في المندوبية أو الوزارة فلا لوم عليهم. .. المساء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق