حكاية البقال… تِمْنْسِيِوينْ

دكان

صباحا جدا قام، غير منتبه للقر، غير ابه بالعتمة، تناول ماءه، وضوءه، وادى الشعيرة، طوبى له، والناس تغط من الغطيط في نوم عميق، تعسا لهم، طوبى له تناول حساءه من الشعير وقطرات زيت صافية غير تلك المعبأة في قارورات قذرة تعسا لها، وخبزه الشهي الساخن، وكؤوس الشاي دفا جسده، ثم خرج من البيت…

شاحنة الحليب في الطرف المقابل، ورجل مثله،سيارة خبز الصباح، من فرن عماله مثله، نزع الاقفال عن الدكان المرتب، رش بابه ليزيل الغبار وللبركة، فالماء امان وبركة، رتب الخبز رفوفا تكفي لفطور الحي، رتب الحليب صفوفا رزقا للعباد الجوار، وعلى بركة الله بدا العمل..

صبية صغار مصطافون على الدكان، في مهمة الاقتناء، قاسمهم المشترك انهم يحملون مرتجفين من البرد دفاترا مطوية، لا ليست دفاتر المدرسة فالوقت لم يحن بعد، بل هو يوم عطلة، الدفاتر تحمل اسماء وارقاما، اخذوا البضاعة واحدا تلو الاخر، وسلموا الدفتر تلو الدفتر، وصاحبنا البقال يدون، خبز وحليب و…،

تشرق الشمس من وراء السحب، تتحرك سيقان الناس جيئة وذهابا، ونساء مصطفات جانب الدكان، ما حكاية الدفاتر تنتقل من جيل لآخر، نفسها عباها البقال، هذه المرة بالصابون والزيت والسكر، وشيء من دقيق وعسل، والنساء تتجاذبن اطراف الحديث، وفي الحديث يظهر البقال، ويتسلمن البضاعة تلو البضاعة، ينصرفن مزهوات متفاخرات، ..

انه الزوال، انتصف النهار، وصاحبنا لم يفارق دكانه، الا لحظات الصلاة، وبعد الغذاء، يمرر الدفاتر كلمات وسلعا، ويأتي دور اصحاب ربطة العنق، البذل المكواة بعناية، موظفون من مختلف الاحجام، بمهام او بدون مهام، بسلاليمهم الممتدة الى خارج السلم ، الى خارج حيطان الادارات العامة والخاصة،بدورهم يحملون نفس الدفاتر، سجائر ومياه غازية، وبسكويت وثمن اللحم والخضر يدفعه البقال نقدا ويدونه في الدفتر، احاديث جانبية يحضر فيها البقال، ينصرف المتأنقون…

هي حكاية تتكرر كل صباح، وعند متم الشهر، يختفي كل هؤلاء الا اللمم، وتحت الطلب وبعد التعب، يؤدون بعض السلع ويؤجلون الاغلب، لانهم في اول الشهر يصطافون امام  الاسواق الممتازة للتباهي بالشوكولاطا والجبن،تتكرر نفس الحكاية كل شهر، ثم كل سنة، ثم كل العمر..

نعم افنى البقال عمره في خدمة هؤلاء واجيالهم القادمة، يخدمهم ليل نهار، يطعمهم ويقرضهم بلا ربا ، ثم لا تجد اكثرهم شاكرين، بل تجدهم ينكتون، يتسلون بأكل حتى لحم البقال الذي من فضله وكرمه لحومهم، وينابزونه بالألقاب..

نعم ذاك البقال جاء مبكرا للمدينة، بعد ان ترك المدرسة البعيدة كيلومترات، جاء من قرى نائية متأبطا حلما بغد افضل، تعلم التجارة رويدا بدون كلل، وبالدراهم القليلة التي احلها له عرقه يساند اباءه هناك بإنكار تام لذاته، درهما درهما غير متسرع، صنع له رأسمالا ففتح عمله واستقل، عملا اجتماعيا قبل ان يكون اقتصاديا، واستقبل اجيالا اخرى يعلمها كيفية تدوين السلع على دفاتر الموظفين والاجراء المتأنقين، ولا يهم كم يربح، فالبركة جعلته يعيل اسرته واباءه وبعض معارفه، بل يعيل الحي كله الى نهاية الشهر، الى نهاية العمر، والبركة وحسن التدبير جعلته يبني بيتا لأسرته بلا فوائد ربا ولا فاتورات اسمنت تنتظر الاداء الى يوم القيامة، وبالبركة والحلال انشا جيلا صالحا يحفظ القران والآداب العامة، جيلا لا يعرف السيجارة ولا دخانها، ولا القارورة ولا شكلها، …

وينابزونه بالألقاب، والتنكيت، وتروى النكت في مجامع رسمية وعرفية، وعرقية، ولا داعي لتقليب الجراح فيما فات، ولا داعي للاصطياد في الماء العكر، فالرجل  المقرئ  ابوزيد صالح واعتذر وكفى، ولا لوم عليه، بل هي زلة لسان وكفى،…

مساء جدا هرولت لصاحبنا قبل ان يدير اقفاله، فقد اذن العشاء، وصاحبنا لا يفوته العشاء، ثم العشاء ومسامرة الاهل، وعلى انغام معشوقه الدمسيري ينام، نعم هو فنان بلا صخب، بلا شواهد واوسمة، فوسامه ذلك الرضا الذي ينعم به، ودعوات الام والاب كل مساء،…

سجل البقال في مدونتي بعضا من سلعه، وبابتسامته المعهودة ناولني دفتري، ودعته الى الغد، فهتف راضيا: تمنسيوين*

* تمنسيوين: تصبح على خير.

 بقلم: ابراهيم حميجو

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق