غازي : عن ثيار الأرض المحروقة أحدثكم !

عبدالله غازي :

أثارني -شفقةً وامتعاضا- تفاعل بعض قياديي حزب العدالة والتنمية مع كلمة فريق التجمع الدستوري بمجلس النواب حين مناقشة ما سمي بملف المحروقات في الجلسة العمومية بمجلس النواب يوم أمس 10 يوليوز، وخاصة السيد بوانو باعتبار صفتيه ، رآسته للجنة المالية و اللجنة الإستطلاعية المتفرعة عنها حول الموضوع. و أمام استكثار هؤلاء على فريقنا ابداء وجهة نظره و ضحده لكل المزايدات العنترية التي أعقبت تقديم التقرير في اللجنة، واستهجاناً لتمادي دي الرآستين في الإفتراء على برلمانيينا حدّ نعتهم بخدمة اللوبيات، لا يسع المرء إلا أن يضع كفيه على وجنتيه دهشةً من قدرة البعض على جحظ عينيه باطلا و بهتاناً بينما حريٌّ به الإستحياء من اجترار نفس أسطوانة المظلومية والتخوين .
فأن يدافع البرلماني عن قطاع اقتصادي وتجاوزاً عن جهات معلوم ٌنشاطها و مُعلَنة هويتها و غاياتها سلوكٌ لعَمْري أكثر قبولاً و وضوحاً من تمترس مريدين، في جبة سياسيين وبرلمانيين، دفاعاً عن الحبر الأعظم وانتقاماً للشيخ الملازم لوِرْدِه ليس ذكراً وتسبيحاً ولكن إحصاء لغزوات تيارات بأجندات غير معلنة.
مناصرة المقاول و المستثمر شرف لكل برلماني يعي أن التنمية و الكرامة لا تتحققان إلا بخلق الثروة و إحداث فرص الشغل الكريم من بوابة المقاولة !
ممارسة التجارة و الأعمال جرم لا ينكر !..المرفوض والمنبود هو أن نؤسس أصولاً تجارية من رأسمال المقدس و المشترك: من الدين والمزايدة على الوطن!
اللوبيات مهما نفذت و اخترقت لا تنال من الأوطان لأن منطقها و مداها هو الإقتصاد وكفى! أما استهداف الثوابت من طرف زمرة ” حُماة الدين” فهو استهداف و سعي حثيث نحو مشروعٍ مكنون لا تفضحه سوى كمثل الفلتات والتسربات الآتية من قاع ضاية الرومي!

وللتذكير والذكرى، لا ضير أن نعرج على ملابسات هذا الملف الذي أريد له في سياق خاص أن يكون حصان طراودة لمحاربين من ورق:
ففجأةً، وفي حين غفلةٍ من وازع الدين والأخلاق والأعراف،ذات زوال من منتصف شهر ماي الماضي ، ألقى عبدالله بوانو بالقبعات الثلاث و أمتطى لوح ركوب الموج!
تجرّد من قبعة رئيس لجنة برلمانية استطلاعية وما يقتضيه التكليف في حدّه الأدنى من انضباط لمتن تقريرها و لاستنتاجاته، ومن قبعة رئيس اللجنة البرلمانية الدائمة التي انتدبت هذه المهمة الإستطلاعية(لجنة المالية والتنمية الإقتصادية) وما يُفترض من حرص مؤسساتي و أمانة في نقل مداولاتها ؛ ثم تنصل من قبعة،بل من جبّة، القيادي في الحزب الأغلبي الذي يقود حكومة الحالية والسابقة و التي يبدو أنه لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها بخصوص ملابسات وسياقات ومسببات موضوع المهمة الإستطلاعية الذي هو في العمق غلاء سعر المحروقات و اقترانه بتدني القدرة الشرائية.
تقرير حصل إجماع على صياغته و تبنِّي متنه واستنتاجاته وتوصياته. إجماع دون لُبسٍ أو تحفظ حسب ما أكده سي بوانو نفسه في مستهل أشغال لجنة المالية استباقاً و نفياً لتهمة التسويق التدليسي لصيغة تقرير آخر بمحتوىً مخدوم!
تقرير أجمعت القراءات والتأويلات بشأنه أنه خلص،في ماخلص إليه، إلى جملةٍ من التأكيدات واليقينيات من جهة وإلى بعض أنصاف الحقيقة التي تم الإقرار بعدم التحقق من صدقيتها: أنصاف حقيقة لم يحصل الحسم قطعاً في إطارها بخصوص سؤال تَحقُّق المنافسة في القطاع من عدمه، اللهم بعض المؤشرات مثل تقارب أثمنة البيع في المحطات الذي يقابله مؤشر آخر هو تعدد الفاعلين في القطاع( مايقارب العشرين!)، ثم سؤال حساب الأرباح الصافية الذي أفضت كل التمارين التي قاربته إلى استعصاء حصره وتحديده بفعل الطابع التركيبي لمدخلاته ومخرجاته.
بينما، في التقرير، كان الحسم و القطع إزاء يقينيات صيغت كاستنتاجات باكورتها أن تحرير القطاع ضخ بضع عشرات من ملايير الدراهم (35!) في الميزانية العامة في سنوات أقرت الحكومة من خلال رئيسها حينئذٍ أن الإختناق كان قد اشتدّ على عنق ماليتها. نفس اليقين تأكد به أن ما خُفف تحمله عن صندوق المقاصة أُسقط رأساً على كاهل المستهلك الذي لم تستفد قدرته الشرائية قطّ من وقع ما تمّ توفيره من تحملات المقاصة.
وعوض أن تكون الأمانة في نقل هذه الإستنتاجات هي ما يؤطر تصريحات ذي الرآستين(رآسة اللجنة الدائمة واللجنة الإستطلاعية المتفرعة) ، كانت عنتريات سي بوانو أمام المكرفونات في البهو صورة هجينة و مشوهة للتقرير و لِما راج في القاعة المغربية.
سي بوانو للأسف اختار بوعي وبإصرار وتعمد ، لكن في تملص جلي من المسؤولية، اختار تحريف الحقائق بنية التأليب والتحريض لإدراكه المغرض أن العزف على وثر الإغتناء الفاحش واصطفافات الأغنياء في تقابل مع الفقراء والكادحين من شأنه أن ييسِّر عملية الهروب الكبير، الهروب إلى الأمام!
ذو الرآستين ليس مبتدئاً حتى نعتقد أن المكروفونات والكاميرات فقط هي من أوقدت حماسته وأطلق العنان لفتوحات أرتمتيكية و لغزوات روبينوودية ككل الشعبويين المحترفين. هو سيد العارفين بأدبيات وأخلاقيات الأعراف والضوابط والأنظمة الموجبة للحرص الموكول لرؤساء الأجهزة والهيآت، لأن المواقف والتصريحات تكون مسندة بخلفية مؤسساتية وليس بتمثلات و مزاجية و حسابات القائمين والمنتدبين. ليس ذلك شططاً لغوياً فحسب، هو تصريف غير مسؤول لما استحال تمريره بالأساليب والآليات الرسمية والقنوات المؤسساتية. هو سلوك يحركه سُعار دفين !
بوانو اختار بوعي الركمجة، رياضة ركوب الموج. أغرته موجة عاتية اعتقدها فرصة سانحة للتزحلق عمقاً حيث يسود القراصنة ويسطو الظلام !

ألفناهم، مريدي هذا التيار تحديداً، متألقين في ركوب الموج !
عرفناهم بُكائيين بارعين في ميلودراما المظلومية السرمدية !
امتهنوا صناعة اليأس وراهنوا على إحباط القوم كلما اشتدّ عليهم الخناق!
تغنّوا بالطهرانية دريعةً للتسلّق، بل وهادنوا خديعةً حدّ تقية الرافضة!
اليوم، كأنهم سمعوا المنادي ينادي”عاق الشعب!”…
اليوم، لا مناص من سلاح الفتنة الكبرى وإن اقتضى الأمر إغراق المركب..
الوطن داته يهون لتنجو ملّة اللهفة واللهطة بجلدها!

وحيث لم يعد الركوب مستساغاً ولا البكاء مجدياً ولا التبخيس والتيئيس كافياً تفتّقت العبقرية وأفتى المرشد بسلاح الإجتثات و الإستئصال و بجواز خيار الأرض المحروقة حتى!

ولأن الأطروحات السياسية البئيسة تعرّت، والخيارات التدبيرية طالها الكساد حدّ التدمّر، لم يعد لهم بدٌّ من الغناء مع البجع والإنطلاق في رحلة صيد أُفق طرائدها كبش فداء يدفع البلاء عن الطائفة !
كبش فدائهم في معركة الفرصة الأخيرة لم يكن هذه المرة ببلاغة المجاز ولا الإيحاء. فأساطير “التحكم” و فزاعات ” العفاريت و التماسيح” لم يعد ينطلي أمر مكرها حتى على الصبيان !..

مشجبهم وشمّاعتهم هذه المرة أرادوها بمنطق ضرب عصفورين بحجر واحد ( أو بالأحرى كبشين بخنجر واحد!): استئصال خصم سياسي متوجّس منه و تحميله كفاعل اقتصادي وِزر الوضع الإجتماعي العليل بفعل خيارات سياساتٍ عمومية كارثية!
ولأن معادلة رفع الدعم عن المحروقات دون تحصين القدرة الشرائية للمستهلك كانت محصلتها وبالاً على المواطن وبرداً وسلاماً على خزينة الحكومة حين كانت على وشك الإفلاس ؛
فطن عبدالله بوانو وفطنت كل الطائفة أن الخلاص هو تأليب المكتوين بنار الغلاء على الطرف الأكثر عُرضةً للإستعداء عليه !
بئس السياسة حين يُقَرصَن تقرير رسمي بقيمة دستورية و يأبى الصوت المؤسساتي أن يزايد بمناورات تحريضية تنهل من أدبيات الصراعات الطبقية، تستنهض الأحقاد و تعزف ترانيم لاهوتية لا قِبل للديمقراطية بها !
بئس السياسة وبئس المسؤولية وبئس المؤسسات حين يهرع حارس المعبد نحو البهو للتقيؤ قيحاً !
بئس الشعبوية المقيتة حين،اصطفافاً مع الشعب زعْماً، نلبس قناع مواجهة الجشعين والمضاربين بينما الحكاية كل الحكاية أن جريمة المضاربة بهموم و مآسي هذا الشعب والمزايدة ببؤس وفقر الكادحين حاصلةٌ و مكتملة الأركان ؛ بل إنها جريمة مشفوعة بضروف التشديد لأن المضارب / المزايد له يد طويلة في أسباب ومسببات هذه المآسي المتزايد بشأنها!

إزاء هكذا سلوك قد ينال منا الإشمئزاز، لكن ولله الحمد من قبل ومن بعد، كلما دب اليأس والقنوط من حال هذا المشهد المؤسساتي الغرائبي الكفكاوي ، تذكرنا حكمة بليغة لأجدادنا الأمازيغ الأحرار تفيد معنى أن حبل الكذب قصير وأنه لا يصح إلا الصحيح:” قيقِّيهي يفِوْ الحال !”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق