صناعة الأرقام والتلاعب بالإحصائيات!

وأنت أمام واجهات المحلات التجارية : تخفيضات بنسبة 50 %…30 %…70 %

وأنت أمام الشاشة الصغيرة : مؤشرات رقمية حول البطالة أو الشغل أو العنف الزوجي أو التنمية البشرية…

وعلى جميع المواقع الالكترونية للوزارات إحصائيات حول عدد ساعات العمل وغياب الموظفين ومعدلات الانجاز والمردودية…

باختصار، وأينما تول وجهك فتم رقم أو نسبة مئوية أو عدد ينظر إليك ويزف إليك خبرا أو معلومة في حلة جديدة بلغة العصر، لغة الأرقام أو لغة الإحصاء.

إلى هنا فالأمر عادي جدا على اعتبار أن المنطق السائد في هذه المجالات هو منطق التدبير اليومي للكم الهائل من العمليات التجارية أو الإدارية وللزخم الكبير من المعلومات حول الظواهر الإنسانية التي تختزل في أرقام ومؤشرات لتقريبها من أذهان العموم بعيدا عن التعقيدات العلمية والتقنية.

لكن، أن يتم التراشق بهذه الأرقام في المجال السياسي واستعراض العضلات بين هذا الحزب أو ذاك في المعدلات والنسب المئوية والمنجزات الرقمية استنادا إلى الإحصائيات فهذا هو العبث بعينه والضحك على الذقون بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ناهيك عن القرارات التي يتم تبريرها باسم الإحصاء وهو منها بريء كشكل من أشكال الاستغفال والتحايل على الرأي العام لتمرير القوانين اللاشعبية.

وقبل إيضاح ما قد يعتبره البعض نزعة تشكيكية في كل شيء لابد من التذكير بهذه الملاحظة العلمية التي بينتها مجموعة من الدراسات والبحوث في ميدان العلوم السياسية تحديدا :

جوهر الأزمة السياسية في العالم المعاصر تكمن أساسا في التحول التدريجي من نظام الحكم بناء على التشريعات القانونية إلى نظام الحكامة بناء على الأرقام !

 Du gouvernement par les lois à la gouvernance par les nombres

وهذا التحول النوعي في السياسة ما هو إلا نتيجة لهيمنة لوبيات الاقتصاد على مراكز القرار وبالتالي تلوث التشريعات القانونية بروائح المال والأعمال.

لنبين الآن كيف يتم التلاعب بالعقول والرأي العام بواسطة الإحصائيات التي يتم تأويلها كيفما اتفق وبجرأة ووقاحة لا نظير لهما في ظل غياب ثقافة إحصائية في حدودها الدنيا لدى الجمهور العريض من المتلقين لهذه الأرقام.

لنبدأ من البداية أي من تعريف الإحصاء والإحصائيات.

أولا، فالإحصاء ليس علما بالمفهوم التقليدي للكلمة بل هو مجموعة من التقنيات الحسابية التي تم استيرادها من العلوم الرياضية – وإذن فالإحصاء ليس هو الرياضيات – بغية اختزال وتبسيط الظواهر والسلوكيات الإنسانية في أرقام وجداول وبيانات لتسهيل قراءتها.

هو إذن وسيلة للتواصل ولتمرير رسالة معينة للمتلقي وفق لغة خاصة في شكل إحصائيات أي معطيات وأرقام ومؤشرات…وإذن مرة أخرى فالإحصاء ليس هو الإحصائيات لأنه غالبا ما يتم الخلط بينهما، بحسن نية أم بغيرها فالنتيجة تبقى واحدة في نهاية المطاف.

وللتدقيق أكثر نقول بأنه للحصول على إحصائيات قابلة للقراءة لابد من إحصاء موضوعي ومحايد. وهنا نفتح قوسا بالغ الأهمية وهو مشكل التأويل للإحصائيات l’interprétation

ولكي لا يتيه القارئ معنا في هذه التحديدات النظرية، لا مناص من التذكير بالحقيقة التالية :

ليس الإحصاء هو من يقوم بتأويل الإحصائيات بل إن الإنسان هو من يقوم بهذه العملية !

كيف؟

المؤشرات التي تصف حالة معينة هي في حد ذاتها محايدة. لكن اختيارها ليس بريئا بل يخضع لتقديرات ونوايا الشخص الذي يقوم بالقراءة الانتقائية للإحصائيات بعد عملية الاختزال الرقمي لموضوع الدراسة.

مثال على ذلك : ظاهرة العنف ضد النساء.

إذا أراد مسؤول سياسي ما تضخيم منجزات برنامج حزبه في مجال محاربة العنف ضد النساء فهو غالبا ما يلجأ إلى النسب المئوية كالقول مثلا بان 3 % فقط من النساء يتعرضن للعنف ! وهي نسبة تبدو ضئيلة نوعا ما، في الظاهر بالطبع.

لكن وبالمقابل إذا أراد نفس المسؤول ولأنه في موقع المعارضة تعبئة الرأي العام ضد خصمه السياسي فهو غالبا ما يعمد إلى ذكر العدد الحقيقي للنساء اللواتي يتعرضن للعنف لأنه رقم كبير جدا مقارنة مع النسبة المئوية السالفة الذكر 3 %. 3 في المائة من 40 مليونا مثلا يعطينا رقم 1.200.000 امرأة تتعرض للعنف !

هذا في حالة ما إذا كان اختيار المؤشر الإحصائي مناسبا للموضوع. أما في حال الاختيار الرديء فالنتائج كارثية على جميع المستويات لأنه وباختصار يصبح الوضع أشبه بحوار الصم والبكم كما أن أداة القياس لا علاقة لها بموضوع الحديث كمن يقيس الماء بالمتر عوضا عن اللتر !

وبما أن النسب المئوية هي المؤشر الأكثر شعبية واستعمالا فلابد أيضا من التذكير بالقاعدة الرياضية التالية :

لا معنى للنسب المئوية في غياب العدد الكلي للعينة موضوع الحساب.

أي 30 % أو 40 % أو 70 % من ماذا؟ هل العينة تتكون من 1000 أو 65 أو 7896 …بدون هذا التحديد فلا معنى لهذه الأرقام بتاتا !

نفس القاعدة الرياضية تسري أيضا على مؤشر آخر كثر استعماله مؤخرا وهو المتوسط الإحصائي كمتوسط العمر أو الأجور أو النقط الدراسية أو متوسط ساعات العمل…la moyenne

متوسط ماذا؟ ومتوسط من؟ ومتوسط متى؟ ومتوسط كم؟ ومتوسط كيف؟

مجموعة من التساؤلات يجب الإجابة عليها قبل الخوض في قراءة المتوسط الإحصائي واستحضار الأحكام أو القرارات.

ماذا نقيس؟ ومن نقيس؟ومتى نقيس؟ وعدد مرات ما نقيس؟ وهل ما نقيس متجانس أم لا؟

ملاحظة أخيرة بالغة الأهمية أيضا، وهي أن الإحصائيات مهمتها الأساسية هي وصف حالة معينة فقط وهو ما يندرج تحت مسمى الإحصاء الوصفي la statistique descriptive لكن البحث عن العلاقات والروابط بين العوامل المتدخلة في الظاهرة الإحصائية لا يمكن تحديده إلا بالمرور إلى مستوى ثان وهو ما يندرج تحت مسمى الإحصاء المقارن la statistique inférentielle

فهل نحتاج بعد كل هذه التدقيقات إلى التذكير بالتفكير البهلواني لسياسيي الأرقام ومسؤولي الإدارات العمومية أو الخصوصية الذين ينطلقون من المؤشرات الوصفية بسرعة البرق نحو استصدار الأحكام النهائية حول الظواهر الاجتماعية شديدة التعقيد ؟

دون أن ننسى كذلك الدافع الحقيقي من وراء كل هذه العملية ألا وهو التلاعب بالعقول ! والتحكم بالنفوس والتستر على الفشل في التسيير الإداري والمالي و…لا داعي للخوض في مستنقع الأسباب الأخرى…

محمد ازرور

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق