تاكللا ن-إيناير (عصيدة يناير) بقلم : عز الدين بونيت

فين غادي بي آخويا.. فين غادي بيا؟

هذا هو السؤال الذي جال بذهني وأنا أتابع النقاش الذي دار في بلاطو القناة الثانية هذا المساء، حول موضوع ترسيم اللغة الأمازيغية، والنهوض بالثقافة الأمازيغية وتقويم حصيلة العمل في هذا الباب.

كما هي العادة، دعي لهذا النقاش سياسيون وجمعويون معنيون بالموضوع. ومن جراء الكاستينغ، كان لا بد ان يضيع وقت طويل من البرنامج في مماحكات سياسوية تافهة.

لكن ما شغلني على الخصوص هو الوصفة الثابتة التي يتعامل من خلالها بعض النشطاء في مجال الثقافة الأمازيغية مع كل نقاش حول الموضوع. فهم يبدأون بتسييج المجال، باعتباره مجالا خاصا بهم، لا يحق لغيرهم أن يدلي فيه بدلوه، أو يعبر عن رأي مخالف لرأيهم. يعتقد أولئك النشطاء انهم الناطقون الرسميون باسم موضوع الأمازيغية، ويرفضون صراحة الاعتراف بحق أي أحد من خارج صفوفهم في التعبير عن رأي لا يتماشى مع ما يعتبرونه مبادئ وقع عليها الأجماع (لا ندري متى ولا بأي صيغة).

ما جعلني أسجل هنا تبرمي من هذا السلوك الإقصائي المنافي لأبجديات الممارسة الديمقراطية السوية، هو ما تفوه به الأستاذ أرحموش (المشارك في النقاش) حين رفض الاعتراف بأحقية جمعيات تشتغل بالثقافة الأمازيغية، قال إنها تابعة للجناح الدعوي للبيجيدي، في أن تسجل دعمها لمشروع القانون المتعلق بترسيم الأمازيغية، معتبرا أنها ليست من الحركة الأمازيغية، وأن موقفها – تبعا لذلك – لا يعبر عن تطلعات الأمازيغ.

وكرس الرجل مرة أخرى هذا السلوك الإقصائي حين كان يرد على رأي متدخل قال إنه لا يعترض على تكريس الاحتفال برأس السنة “الأمازيغية” كعطلة رسمية، على أن ينكب البحث العلمي على تدقيق المعطيات التاريخية التي يروجها النشطاء حول الموضوع، حتى يكون هناك حد أدنى من المصداقية العلمية في هذه المعلومات التي ستلقن لاحقا لأطفالنا. فقد اعترض الأستاذ رحموش بشدة على هذا المقترح: من هم هؤلاء العلماء الذين سيفحصون ويدققون؟ كل التواريخ بنيت بالاتفاق.. كل الأمازيغ اتفقوا على أن هذا تاريخهم، فما شأن الآخرين بذلك؟

لم أفهم عن أي آخرين كان يتحدث؟ وهو الذي كان يقول قبل ذلك أن كل المغاربة أمازيغ. ولم أعرف من هم هؤلاء الأمازيغ الذين اتفقوا؟ ولا كيف تم هذا الاتفاق، وكيف تم التعبير عنه؟ وهل الأمازيغ الأخرون المعترضون مثلي ومثل كثيرين غيري على هذا الإسفاف، ليس من حقهم أن يقولوا إنهم لم يستشاروا في أي مقترح من تلك المقترحات؟ من أوكل إلى عدد من الجمعيات المنغلقة على نفسها والرافضة لأي صوت مخالف لبعض انزلاقاتها، أن تتكلم باسم هويتنا الجماعية وأن تنفرد بتمثيل هذه القضية في الإعلام والمشاورات السياسية والمحافل الثقافية.

شخصيا أعرف عددا من المعطيات المغلوطة التي يتم تداولها باسم القضية بعيدا عن التحري العلمي. إذا كان الغرض الوحيد فعلا هو استعادة جزء مغمور من هويتنا وإغناء رصيدنا الرمزي ووعينا وثقافتنا، وتصحيح إدراكنا لمكونات هذه الثقافة، فنحن بحاجة إلى العلم، والعلم وحده، ولسنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة، نستبيح تغذيتها بالخرافات. إذا كان مطلبنا هو إعادة كتابة تاريخنا، فلنكتبه بالعلم، وليس باختلاق خرافات جديدة نضيفها إلى الخرافات التي يغرق فيها تاريخنا الحالي. ومن العجيب أن الأستاذ رحموش قالها بوضوح: “خلليونا ساكتين، احنا الأمازيغ،” قبل أن يردف أن التاريخ الإسلامي نفسه ما هو إلا تاريخ اتفاقي (وكأنه يكتشف العجلة، أو يبوح بسر خطير تآمر الجميع على كتمانه). كان لسان حاله يقول: ما دام تاريخ(كُم) (الضمير هنا لم يرد على لسانه، لكنه كان يتوجه بالكلام إلى ممثل حزب العدالة والتنمية، وممثل جمعية حماية اللغة العربية، أي ممثلَيْ الرواية الإسلامية والرواية العربية للتاريخ المغربي، كما أراد أن يوحي) مليئا بالأساطير فلماذا تعترضون على أساطيرنا نحن؟

ومرة أخرى تنبجس من ثنايا السجال هذه الثنائية: نحن وأنتم. هي ثنائية كان يمكن أن تبدو عادية، لأنها من مقتضيات كل سجال. لكن ما يضفي عليها هنا مذاقا مزعجا، هو كونها تتلبس في ذهن الناطق بها بالهوية والشعب الأمازيغيين. فالأستاذ رحموش لا يفرق بين حركته وبين عموم الأمازيغ بل هما عنده متطابقان في القول والممارسة. هو تجسيد الشعب الأمازيغي، وأطروحاته هي التعبير عن إرادة هذا الشعب؛ وكل من لا يتقاسم هذه الأطروحات أو يختلف معه في الأولويات، يصبح خارج الشعب الأمازيغي. والترجمة العملية لهذا التطابق هي نعت كل من لا يتفق مع الحركة، مع “صفاء” انتمائه دمويا إلى أم أو أب أمازيغي، بأنه مستلب (أي ضال، بمصطلحات الخطاب الديني). وأبعد ومن ذلك وأكثر غلوا أن ينادي شباب معبأون إيديولوجيا بترحيل كل العرب الموجودين في المغرب إلى الجزيرة العربية، دون أن نسمع من قادتهم من يردعهم عن هذا الانحراف الإيديولوجي أو يوضح لهم أبعاد هذا الشعار المنحرف.

أمام مثل هذا الخطاب المنحرف، الذي يطفح كلما اشتد السجال، لا يسعني إلا أن أعتبر أن كل الخطابات الأخرى المنمقة التي تقول لنا إن الحركة الأمازيغية تعتبر كل مكونات الشعب المغربي متجانسة وأمازيغية في نهاية المطاف، وهي خطابات أتقاسم مضمونها دون تحفظ، ليست لدى البعض سوى نوع من التقية شبيهة بتلك التي يتهم بها معارضو الإسلام السياسي خصومهم، حين ينعتونهم بأنهم لا يؤمنون حقا بالديمقراطية وإنما يتوسلون بها إلى حين الاستحواذ على السلطة ودواليب الدولة ومفاصل المجتمع، حيث سيكشفون عن وجههم الحقيقي المعادي للأنسان وحكم الإنسان لنفسه بنفسه.

إعادة بناء هوية البلد ورسم معالم المواطنة فيه، لا ينبغي الركون فيها إلى الغلو والاستحواذ على ميادين العمل الثقافي والسياسي، وادعاء تمثيلية إقصائية. كما أن مآلات الشعوب لا تبني بالتسرع في استنزال القرارات السياسية والابتزاز والاتهامات الجارفة. فالمثل المغربي الدارج يقول: “اللي كايحسب بوحده كا يشيط له”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق