ـ ربورتاج ـ صمت رهيب في سوق مهيب

سوق الخضر والفواكه بإنزكان، أكبر سوق للجملة بجهة سوس ماسة، لكنه يعاني من ويلات العشوائية. شاء ت الأقدار أن تحتضنني هذه الرقعة المهمشة بأسوارها في جوف مدينة صارت تحتضر على وقع مجموعة من التناقضات الاجتماعية ..

السوق ممتلئ عن آخره ولن تجد لنفسك موطأ قدم. كان المكان مكتظا بالتجار القادمين من مختلف الجهات… انبهرت لوسع وشساعة المكان، وشعرت أنني غريب وسط الميدان.. لكنني تشجعت قليلا لأنضم للجموع وأستفسر عن الأوضاع… حقا لا أعلم من أين له هذا الاسم، فهو خلية متعفنة تفتقد لأدنى شروط التنظيم… المعضلة الكبرى أنه يستقبل أكثر من طاقته الاستيعابية، مما يؤول بأوضاعه نحو الهاوية.

معظم رواده يشتكون من هول المشاكل التي يتخبطون فيها كل حين.. فيكتفون بقول  ما عسانا نفعل أمام هذا الواقع المر… المهم بالنسبة لهم أن يصبحوا في مكان يأوي سلعتهم، ويمسون فيه بأقل الخسائر بصفتهم – تجار حرايفية –… إلا أن السؤال بهذا المعنى يبقى مطروحا في ظل الظروف والأوضاع التي يعيشون فيها، سواء من داخل السوق أو من خارجه…

حاولت أن أستفسر عما يحدث، مستعينا بمن يحتكون كل لحظة بهذا السوق… الجميع هناك يسعى جاهدا لسرد الواقع من جانبه السلبي فقط… يقول أ. أحمد أن الأوهام تزيدنا شحنة إضافية من أجل الاستمرار في هذه المهنة… فهمت من كلماته المتقطعة أنه يقصد تلك الأوهام التي زرعتها وعود المسؤولين في أدهانهم على حد قوله. أنهى الرجل كلامه قائلا: ـ لسنا إلا بيادق تسحرنا عصا موسى في موسم جني الأصوات…  بل سنظل كذلك، عبيدا لتسلطهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها…ـ

شكرتهم على حسن الاستقبال وانطلقت لأرتكن قبالة شاحنة عملاقة محملة بصناديق من الطماطم. الكل يحوم حولها… سمعت أحدهم يخبر الباعة أنها قادمة من منطقة شتوكة أيت باها… أصحاب العربات أيضا لهم نصيب في ذلك، فمعظمهم يصوب مساره تجاه أي شاحنة تعتب باب السوق… أخدت هاتفي من جيبي لألتقط بعض الصور من ذالك المشهد، بعد ها بلحظات استوقفني شاب ثلاثيني، فبادرت من جهتي لأعرفه بنفسي… مد إلي صندوقا فارغا لأجلس فوقه طالبا مني أن أشاركه جلسة شاي… لم يشأ أن نستهلك تلك اللحظات ذون أن يخبرني بالأسباب التي جعلته يمتهن مهنة والده. أخبرني أنه حوكم بعقوبة حبسية لمدة 8 سنوات، بتهمة السكر العلني وتهم أخرى لم تكن ليده بصمة في ارتكابها… يقول عبد الاله الملقب بالرعد، وأنا بين أسوار السجن الملعون أدركت أنني في بداية لمعانات ربما لن أشهد لها نهاية. إلى أن صرت حرا طليقا منذ أشهر قلائل مضت …  كما أكد لي من خلال نبرة صوت يغلب عليها الألم، أن وطنه مدين له بطفولته التي قضاها في تنقلاته بين أسوار السجون الملعونة ـ سجن إنزكان، تاصورت، أسفي وعكاشة…

وهو ينسج عبارات الألم بانفعال شديد، لم يتردد أن يقسم بعزة أبيه أنه لن يموت حتى يسترد ما سلب منه ظلما… يقول الشاب أن رجال ولايات الأمن، سلبو منه مستقبله.. قامو بتجريده من شواهد وديبلومات حصل عليها أيام الدراسة، وذلك ببخس سيرتة مما لا يسمح في قبوله بمباشرة أي عمل…كما ان المسؤولين صادروا منه فرصا عديدة قد تحيي طموحاته… حتى مؤسسة إدماج السجناء بصمت بصمتها سلبا، فأغتالت آماله في هذا الوجود ولم يعد له باب ينير درب حياته، إلا براءة أبيه وحنان أسرته…

وقبل أن أنصرف إختتم كلامه بعد أن تحدث قليلا عن حيثيات السوق. أشار إلى وجود جماعة من الأشخاص المعروفين، الذين يتحكمون من كواليس البيع والشراء، وهم الوحيدون الذين يمتلكون كلمة قرار في تحديد منحى الأسعار من داخل السوق ومن خارجه أيضا… ودعت الشاب في جو تسوده الطمأنينة، بدا لي أني وفرت له متنفسا لطرح معاناته …

وأنا أقصد جوف السوق، لاحظت أربعينيا يرمقني بطرف عين متيقظ، اتجهت نحوه مباشرة لأحاول استنزاف ما بداخله… طلبت منه  أن يمدني ببعض المعلومات عن السوق فرحب بطلبي من دون تردد .

يقول: بحلول منتصف عام 2010، أول يوم تطأ فيه قدماي أرضية هذه ـ الرحبة ـ على حد وصفه،  وذلك بعد ما كنت تائها وسط شوارع المدينة أيام شبابي. دخلت حينها عالم التجارة دون سابق إنذار. شعرت بحرية تامة، فهنا تستطيع الدخول والخروج بلا حسيب ولا رقيب. لكن لا مفر من العقاب  بمخالفة قواعد ـ لْحَلُّوفْ ـ مما يحتم علي أن أكون مسؤولا عن تصرفاتي حتى لا أخضع لزلات قد تهوي بي في منعطف لا يحمد عقباه. فالحرية هنا سلاح دو حدين … كانت البداية الأولى بالنسبة لي عبارة عن اكتساب التجربة فقط. إكتشفت خلالها وبالتدقيق مختلف زوايا السوق ودخلت ميدان التجارة من بابه الواسع … فهنا تجد أشخاص ذوي تجربة في الميدان يحاولون كل مرة فرض سيطرتهم . يظيف، تجرأت مرات عديدة على الالتحاق بمواقعهم لعلي أستفيد من مكرهم وخديعتهم،  فهذا المكان يوفر  شيئا واحدا لا غير… فالمصلحة الشخصية هي الأساسي لكل مجموعة والخديعة محرك هذه المصلحة ولا مجال لاستحضار الضمير…

كان الكلام مع هذا الرجل جد مشوق، يدخل في تفاصيل التفاصيل ليضمض بها جراحا راكمها في مساره المهني.. أكد لي هو الآخر أن حال هذا السوق سيستمر على هذا الحال  لأن رواده اتفقوا منذ زمن ألا يتفقوا. أما المسؤولين فلهم نصيب في ذلك..فمن المؤسف إذن أن يظل سوق بهذا الحجم في معزل عن اهتماماتهم..

إذا تمعنا قليلا في هذا الوضع المقلق للغاية، بإمكاننا القول أنه مشروع تديره أيادي خفية للقضاء على كل مبادرة قد تصدر من أصحاب الضمير … كثيرة هي النماذج التي تفضح تلك الإخفاقات السياسية التي ينهجها المسؤولون، مما يؤدي إلى إجهاض القدرات لدى التجار وكذلك الفلاحين… فلطالما سجل التاريخ مجهودات المسؤولين في نفي وإقبار مطالبهم… باختصاربوصلة التغيير ببلادنا أصابها الشلل بعدما فرض عليها السير في منحى الجزر دون أن تحرك ساكنا نحو جهة المد.

من إعداد هشام بوفقير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق